دروس عظيمة في الإدارة من مملكة النحل
الدكتور محمد المحمدي الماضي
(1) درس في التنظيم :
مقدمة :
ولم لا نتعلم من النحل، وقد أفرد الله سبحانه وتعالى سورة باسمه في القرآن، ولا يكون ذلك إلا لشأن عظيم ودروس عظيمة يجب أن ينتبه إليها كل من يعظم القرآن، وها نحن نحاول في هذه العجالة أن نواصل معاً محاولاتنا للوقوف ولو على بعض تلك الدروس العظيمة التي أشرنا إلى بعض منها في كل من وقفاتنا مع الهدهد والنمل، والتي كان لها عظيم الأثر لدى كل من قرأها.
وقفة تأمل:
لا شك أن المرء قد يتعجب- كما سبق أن تعجب حين وقفتنا مع نملة سليمان- وذلك حينما يجد سورة من السور الطوال سميت بسورة النحل أو النمل ولم يرد ذكر أي منهما فيهما إلا في جزء من آية أو بضع آيات، لكن هذا يدعونا إلى أمرين:
الأول:
أن نمعن النظر في كل كلمة من كلمات القرآن التي وردت في هذا الشأن.
الثاني:
أن نبحث وندرس في سلوك تلك الحشرات من خلال العلوم المتخصصة لنتعرف على المزيد من التفاصيل التي تبصرنا بالمزيد من الدروس والعبر، فالنظر في مخلوقات الله للتدبر والدراسة والعبرة يعتبر مما دعانا الله سبحانه وتعالى إليه في كتابه الكريم، ولقد نص القرآن على أولئك الذين لا يلتفتون إلى مثل تلك الآيات العظيمة التي تملأ الكون في سمائه وأرضه.
" وكأي من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون" يوسف: 105
فكلاً من آيات القرآن المقروءة وآيات الكون المشاهدة تتضافر معاً في شكل متجانس ورائع للدلالة على روعة الخلق وعظمة الخالق.
وسوف نحاول قدر الإمكان إتباع هذا المنهج في هذه التأملات وإن كان الأمر- ولا شك- يحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة في كلاً الاتجاهين.
الدرس الأول: في التنظيم :
في الحقيقة لا يمكن لأحد يريد التحدث عن التنظيم كأحد وظائف الإدارة، بشكل واضح وجلي وفي أنصع صوره ؛ إلا ووجد في تنظيم خلية النحل ضالته وبغيته ، وهذا مايدفعنا دفعا للوقوف علي تلك الدروس العظيمة فهيا بنا .
1 ) جوهر التنظيم
2) التخصص وتقسيم العمل ثورة في تاريخ البشرية
3 ) التكامل (integration)
4 ) المرونة والتكيف مع الأوضاع الخارجية المحيطة
5 ) النمو الاستراتيجي المتوازن
6 ) مبادئ مهمة وعظيمة في التنظيم
أ ) مبدأ وحدة الأمر (unity of command)
ب) مبدأ تكافؤ السلطة والمسئولية
ج ) مبدأ تفويض السلطة
7 ) الحق والواجب بين الإحسان والتطفيف
وسوف نتناول معاً درساً درساً:
( الدرس الأول ) جوهر التنظيم
فإن كان التنظيم في جوهره ينطوي على ركنين هما:
التقسيم والتنسيق، أو التفاضل والتكامل (Differentiation & Integration)
كما يقولون، فإن آيات الله في خلية النحل تتجلى بأعظم ما يكون في إثبات ذلك، وما هو أكثر منه، ولعلنا نحاول في هذه المقالة الغوص في أعماق بحار عميقة واصطياد بعض درره ولؤلؤه.
( الدرس الثاني ) التخصص وتقسيم العمل ثورة في تاريخ البشرية:
يعتبر التخصص بصفة عامة أحد أهم الثورات التكنولوجية في تاريخ البشرية، والتي انتقلت بها من طور إلى طور آخر أكثر تقدماً.
حيث كان لظهور عصر التخصص وتقسيم العمل الفضل الأكبر لتوفير الوقت والتركيز على حرفة واحدة ومن ثم ظهر الفائض الذي تبعه بالضرورة ظهور الحاجة للتبادل وهو ما عرف بالتجارة ؛ ابتداء من المقايضة ؛ فيما عرف بالاقتصاد السلعي وانتهاء بظهور النقود كوسيط للقيمة، ومقياس لها، ووسيط للتبادل فيما عرف بالاقتصاد النقدي.
ولعل القارئ يدرك كيف كان للتخصص وتقسيم العمل أكبر الأثر في تحقيق ذلك التقدم الرهيب في سير البشرية الاقتصادي نحو التقدم الحضاري.
ولا شك أن التخصص وتقسيم العمل ظل بعد ذلك وإلى الآن وفي كل وقت هو الجوهر الأول والأساسي لأي تنظيم إنساني بمعناه الشامل، والذي يقصد به فردان فأكثر يعملون معاً لتحقيق هدف واحد مشترك.
لكن الأمر لا يقتصر فقط على التنظيمات الإنسانية، فها نحن نجد قمة التقسيم للأدوار والمهام والتخصصات في منظمة النحل،
فالشغالات مهمتها البحث عن الزهور وارتشاف رحيقها لإنتاج العسل، وحبوب اللقاح، وغذاء الملكات- كما يتم تقسيم الشغالات أيضاً تقسيماً داخلياً آخر يشتمل عدة تخصصات أخرى عرف منها الحراسة، وتحديد أماكن الزهور وتوجيه أسراب النحل إليها، وتكوين الشمع في الخلية..الخ.
ثم هناك الذكور التي تتركز مهمتهم في تلقيح الملكة.
ثم الملكة التي تعني أساساً بوضع البيض لإنتاج المزيد من اليرقات التي تضاعف قوة النحل بإضافة أسراب أخرى إليه لتحقيق المزيد من الإنتاج والنمو وضمان الاستمرارية.
بالإضافة إلى وظيفتها باعتبارها الملكة ولا شك أن هذا التنظيم لا ينحصر فيما يعرف بالتخصص الدقيق لأفراده ، ولكن هناك الكثير من المرونة ؛ حيث يمكن لكل منها المشاركة في أكثر من دور وخاصة الشغالات.
كما أود الإشارة إلى نقطة مهمة جداً هنا وهي أن هذا التنظيم يقوم على أفضل وأحدث ما يمكن أن تبدعه العقلية الإدارية وهو ما يعرف بالتنظيم من خلال فرق العمل، حيث إنك لا تجد نحلة واحدة فقط تسير وتعمل في تخصص واحد، وإنما فرق عمل متكاملة ومتفاهمة ومتناسقة لتؤدي عملها أيا كان بأعلى درجات الكفاءة والفعالية.
إن أصعب ما تعاني منه كثير من المنظمات البشرية الآن هو أن إدارتها تقوم على أسلوب الإدارة بالأفراد وليس إدارة فرق العمل ولعلك تدرك معي كم هو البون شاسعاً بين الأسلوبين.
ومن هنا فإننا ندرك أن التقسيم موجود ولكنه يقوم على أساس فرق عمل يتخصص كل منها في أداء مهمة معينة مع وجود درجة عالية من المرونة للمشاركة في مهام أخرى دون أدني تنطع أو بيروقراطية عقيمة.
( الدرس الثالث ) التكامل (integration)
يعتبر التكامل أو التنسيق هو الركن الثاني للتنظيم. فبدونه لن يكون للتقسيم أو التخصص معنى ولن يتحقق أصلاً معنى المنظمة أو التنظيم.
فبدونه سوف تجد كثرة التضارب والازدواج والتكرار، وتشتت الجهد بلا جدوى أو طائل أو تركيز نحو الأهداف.
وكل تلك السلبيات قد نجدها واضحة في كثير المنظمات البشرية ابتداء من أصغر منظمة كالأسرة وانتهاء بالوزارات على مستوى أي دولة.
لكن لا يمكن لأحد أن يلحظ أياً من الظواهر السلبية على خلية أو منظمة النحل.
فهي تتسم بعدة خصائص تنظيمية مهمة تعمل كآليات لتحقيق التنسيق التلقائي الفطري المستمر أهمها:
- وحدة الهدف.
- وتحديد الإجراءات والأدوار.
- وتنميط المهارات.
- والتفاهم المشترك في الأزمات والطوارئ.
- والقيادة الضابطة والموجهة.
وهذه هي أهم أساسيات تحقيق التنسيق بأية منظمة وهي جميعاً متحققة بشكل فطري ومستمر في تنظيم مملكة النحل.
مما يحقق جانباً أساسياً لفعالية وكفاءة التنظيم، ويمثل درساً عظيماً ومفيداً لكل من يريد بناء منظمة سليمة.
( الدرس الرابع ) المرونة والتكيف مع الأوضاع الخارجية المحيطة(integration)
إن أخطر ما يصيب أي منظمة بالفشل والانهيار هو الجمود على وضع معين وكأنه أصبح أبدياً. ولقد رأينا كثيراً من المنظمات العملاقة التي نجحت ردحاً من الزمان قد أصابها النجاح بنوع من الجمود الذي تحول مع الوقت إلى وحش كاسر يتصدى لأي عملية تكيف مع الأوضاع البيئية المحيطة دائمة التغير، والذي أطلق عليه البعض الجمود النشط (ِActive Inertia) ولعل أفضل مثال على ذلك ما يحدث لشركة فورد و GE و IBM وغيرهامن الشركات الأمريكية في السبعينات والثمانينات ثم تغلبت عليه إلى حد كبير بعد ذلك، وما حدث لشركة فاير ستون لإطارات السيارات أمام شركة ميشلان حيث لم تستطع التخلص مما تعودت عليه من أساليب أيام نجاحها، رغم تغير البيئة والظروف مما أودى بها تماماً، فتم بيعها بثمن بخس لشركة يابانية منافسة ثم تلاشت تماماً من الوجود.
ولا ننس أمثلة كثير من شركاتنا التي لا تلقى بالاً ولا اعتباراً للتغيرات البيئية الخارجية، فثبتت هياكلها وأساليبها ووسائلها وجعلتها بمثابة غاية في حد ذاتها مما أصابها بالفشل الذريع وأدى إلى اختفاء الكثير منها..،
هذه عجالة شديدة تؤكد على أهمية الإدراك الصحيح للظروف البيئية المحيطة والاستجابة الإدارية المناسبة لها بما يفرض على الإدارة ضرورة اتباع هياكل إدارية مرنة تتوافق مع الظروف المحيطة وتحافظ على درجة معقولة من النجاح المستمر، والتي تغيب للأسف عن كثير من إدارتنا البشرية، فماذا عن مملكة النحل؟
لقد أشار القرآن إلى هذه النقطة بشكل يدل على الإعجاز في مراعاة هذا الجانب حيث قال تعالى: "أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر، ومما يعرشون..."
فنحن نرى هنا أن النحل غير مقيد بهيكل واحد محدد، وإنما يكيف نفسه ويؤدي واجبه، ويمارس عمله وينجز مهمته ويحقق هدفه على خير وجه في كافة الأوضاع التي تتاح له، فهو يبني بيئة او خليته في الجبال، أو على الأشجار، أو فيما يهيئه له الإنسان مما يعرشه من مناحل، حيث يستقر فيها ويعمل دون أدنى مشكلة أو أزمة.
كما أنه ينطلق في البيئة المحيطة ويبحث عما فيها من ثمار فيرتشف من رحيقها، سواءاً كان نباتاً جبلياً فقيراً وقليلاً وصعباً، أو زهوراً، أو نباتاً محصولياً، أو غير ذلك، فإنه يرتشفه ويحوله إلى منتج نافع ومفيد ومتعدد الأغراضفي أعلى درجة من الجودة والاتقان.
( الدرس الخامس ) النمو الاستراتيجي المتوازن:
لعل من أعظم الدروس من وجهة نظري فيما يتعلق بتنظيم مملكة النحل، هو ذلك المتعلق بالنمو والاستمرارية الفعالة الكفء، وكيف ينمو الهيكل الإداري ليتوافق بشكل فطري مبسط مع استمرارية نمو المملكة.
ولعل هذا الأمر قد يبدو عادياً أو بسيطاً لأول وهلة، ولكن لن يعرف قدره إلا من عايش واقع كثير من المنظمات سواء منها ما كان حكومياً عاماً، أو ما كان خاصاًً، حيث قد لاحظت حالات واقعية كثيرة قد اصابها اضطراب وصل لدرجة التعرض للفشل الذريع بسبب النمو غير المتوازن، حيث شاهدنا كثير من الشركات ينمو حجمها ولا ينمو هيكلها التنظيمي ليتوافق مع هذا النمو في الحجم.
ويترتب على ذلك إصرار كثير من المديرين أو أصحاب مثل هذه المنظمات على إدارتها بنفس الهيكل ونفس أسلوب الإدارة، بيروقراطية، مركزية، تسلط فردي وكثيراً ما كان الفشل هو النتيجة الطبيعية إلا إذا تم تدارك الأمر وإصلاحه في الوقت المناسب، وخاصة في مجال الشركات العائلية..
ويذكرني ذلك برجل كبير يصر على ارتداء زيه أيام كان طفلاً صغيراً في الحضانة..!
ولقد اعتبر كثير من دعاة الهندسة الإدارية أن الاتجاه إلى تقسيم المنظمة الكبيرة إلى أقسام صغيرة شبه مستقلة فيما عرف بDown Sizing طفرة وثورة حقيقية في مجال الهيكلة الإدارية والذي سماه أيضاً رجال الاستراتيجية (SBU) أي التنظيم من خلال وحدات أعمال استراتيجية لكل منها شخصيتها وإدارتها ومركز تكلفتها وربحيتها بل وتنافس في السوق وتتنافس ؛ ومدير كل منها له صلاحيات حقيقية في ظل سياسات وضوابظ واضحة، ولعل شركة جنرال اليكتريك وما أحدثته في هذا الصدد قد أدى ثورة حقيقية وانتشلها من عثرتها حينما تضخم حجمها بشكل جعلها أقرب إلى المؤسسات الحكومية البيروقراطية الديناصورية مما عرضها لخطر التلاشي والانهيار.
لقد تعجبت كثيراً من الأسلوب الفطري شديد البساطة في مملكة النحل، حيث يظل النمر مستمراً، ليس فقط بإنتاج المزيد من العسل، والشمع، وحبوب اللقاح ، وإنما أيضا – وهذا هو الأهم - بإنتاج المزيد من أسراب النحل بكل ما يحتويه كل سرب من تخصصات متكاملة، ثم ينشئ كل منها خلية جديدة في المكان الذي يجده مهيأ لذلك ويمارس إنتاجه بنفس الدرجة من الكفاءة والفعالية بحيث إنك تجد أن المنحل الذي يتكون من 60 خلية مثلاً سوف تبلغ بعد سنة ما لا يقل عن حوالي 100 خلية بما فيها من شغالات وذكور وملكة..!
فأي منظمة في الدنيا في عالم البشر هي تلك التي تنمو بمثل هذا المعدل!! ليس هذا فحسب بل الأعجب بمثل هذا الأسلوب المعجز الذي لا يجعل من النمو مشكلة كما يحدث في كثير من المنظمات البشرية، ولعل كثير من المديرين في كافة أنواع الشركات وخاصة القطاع العائلي يحتاج إلى تفهم مثل تلك الدروس العظيمة والتي لم نكتشف أهميتها إلا منذ سنوات قلائل ونتيجة للتعرض لأزمات قاتلة والتي تعتبر من أساسيات الابتكار الاستراتيجي العبقري.
( الدرس السادس ) مبادئ مهمة وعظيمة في التنظيم:
إذا كان أي تنظيم يقوم أساساً على ركنين أساسيتين كما سبق أن ذكرنا وهما: التقسيم والتنسيق، وما ينطوي عليه كل منهما من أدوات فإن سلامة العلاقات في هذا التنظيم تقوم أيضاً من وجهة نظري علي ركنين وهما: "السلطة والمسئولية"
ويقصد بالسلطة: " حق إصدار أمر، أو اتخاذ قرار"
ويقصد بالمسئولية: "الالتزام بأداء واجب "
وجوهر العلاقات في أي تنظيم تنبثق هذين الأمرين فإن صلح صلح التنظيم وإن فسد فسد التنظيم، فبناء عليهما ينشأ مبادئ عدة للتنظيم أهمها ثلاث مبادئ:
أ ) مبدأ وحدة الأمر (unity of command)
من مبادئ التنظيم المهمة مبدأ وحدة الأمر، والذي يقصد به ألا يتلقى المرؤوس أوامره إلا من رئيس واحد فقط، وكما يقول المثل العامي: "المركب التي بها رئيسين تغرق"
ومما يؤكد على سلامة هذا المبدأ وجوده بشكل فطري في خلية النحل، فلا تجد لخلية أكثر من ملكة، وإن كان هناك أكثر من ملكة مرشحة فإنه يتم سباق تنافسي بينهما لتقضي أحداهما على الأخرى أو تطردها وتظل الرئاسة لواحدة فقط، فإن كان ولا بد من وجود ملكة قوية أخرى فإنها حينئذ يمكن أن تقود سرباً جديداً من النحل الصغير الناشئ وتنطلق به لبناء خلية جديدة وهكذا.
بل إنني علمت من علماء متخصصين في علم الحشرات وخاصة النحل، أن الشغالات تعمل على تغذية أكثر من نحلة ناشئة لتكون ملكة فإذا بدأت تظهر علامات النمو بوضوح عليها، انتخبت أقواها وقتلت الأخريات..!!
ولعلنا نختم هذا الدرس العظيم في التنظيم بقول الله عز وجل:
" لو كان فيهما ألهة إلا الله لفسدتا ، فسبحان الله رب العرش عما يصفون " الأنبياء : 22
ب) مبدأ تكافؤ السلطة والمسئولية :
والذي ينطلق من قاعدة شرعية عريضة مؤداها أن يكون التكليف على قدر الوسع، "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" وذلك بألا يتم تحميل أحد الأفراد مسؤلية دون منحه سلطة مكافئة تمكنه من أدائها .
ولعل ما نلاحظه من لسعي كل نحلة وحركتها في أداء المهمة المنوطة بها على خير وجه ، ينم عن توافر قدر كبير من السلطة والصلاحية المكافئة الممنوحة لكل نحلة للتصرف بحرية في ضوء المصلحة العليا للمملكة والرسالة التي نشأت وفطرت من أجلها والتحمل الواضح للمسؤولية .
ج ) مبدأ تفويض السلطة :
ومؤداه بإيجاز :
أن السلطة تفوض والمسئولية لا تفوض .
ومنه تنشأ سلسلة مستمرة ومتدرجة من تفويض السلطة دون أن يفقد أي مستوى، قام بالتفويض مسئوليته أمام المستوى الأعلى الذي قام بتفويضه، ولعل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يحدد في إيجاز بليغ جوهر هذه المبادئ حينما يقرر "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ..." ثم عدد أنواعاً متنوعة من المسئوليات التي لا تتم إلا بناء على تفويض السلطة .
وبشيء بسيط من التأمل نجد أن كثيرا من أسباب الخلل التنظيمي في منظماتنا البشرية ترجع لغياب واحد أو أكثر من هذه المبادئ.
أما في مملكة النحل فإننا نلاحظ تحقق هذه الدروس والمبادئ بشكل فطري وتلقائي ولا نكاد نجد غياب أو انتهاك لأي منها .
فمبدأ وحدة الأمر واضح ومحدد ومحترم تماماً على مستوى كل خلية.
ومبدأ تكافؤ السلطة والمسئولية أيضاً واضح تماماً فهناك شيوع كامل للسلطة مع قمة التحمل والشعور بالمسئولية ليس فقط أمام المستوى الأعلى، وإنما أيضا - وهذا هو المهم- على المستوى الشخصي فيما يعرف بالإحساس بالمسئولية الذاتية أو الشخصية والتي يحلم كبار علماء الإدارة بوجودها في التنظيمات المثالية مثال "بيتر دراكر" الذي اعتبر الشعور بالمسئولية في كافة أرجاء التنظيم بحيث يكون أدنى مستوى تنظيمي مستشعر للمسئولية تماماً كأعلى مستوى، هو واحد من بين ستة مقومات أساسية للتغلب على تحدى إحداث ثورة في تحسين إنتاجية الخدمات والمعلومات.
وإذا كان البعض يتخيل ان التفويض الكبير للسلطة كما هو حادث في مملكة النحل قد يؤدي إلى فوضي، ومن ثم نجد معظم المديرين يميلون لتكريس وتركيز السلطة في أيديهم بشكل مركزي بغيض، فإن الدرس الذي نتعلمه من النحل يؤكد أن أعظم ضمانة لكليهما هو وجود الآخر، فالسلطة والمسئولية كوجهي عملة واحدة، وكلما زاد نضج افراد التنظيم وأصبحوا على درجة عالية من تحمل المسئولية واستشعارها فإنه يكون من الخطأ الجسيم بل والمدمر حينئذ حجب السلطة عنهم، وعدم تفويضها لهم، بل إن ذلك في حد ذاته - إن حدث - يؤدي إلى سريان روح في التنظيم ؛ من التسيب ، واللامبالاة ، وعدم تحمل المسئولية.
وإذا كان هذا الوضع المختل يحدث كثيراً في منظماتنا البشرية وخاصة من أنماط إدارية تفسد وتزعم أنها تصلح وتخرب وتزعم أنها تعمر، فإن ذلك لا يحدث مطلقاً في خلية أو منظمة النحل، التي لا تنتظر فيها نحلة أوامر أو تعليمات من نحلة أخرى لتؤدي واجبها. فأي قوة عبقرية ملهمة تلك التي حركتهم جميعاً لتنطلق كل منها مبكراً إلى عملها وتعود محملة بالرحيق لتواصل بعد ذلك تحويله إلى العسل أو غذاء الملكات في أعلى درجات التميز والاتقان.
( الدرس السابع ) الحق والواجب بين الإحسان والتطفيف :
لا شك أن الجوهر الأخلاقي لتلك العلاقة التنظيمية في الإسلام يقوم على أساس خلقي قيمي هو ما يسمى بالعلاقة بين الحق والواجب.
فلكل فرد في كل علاقة مع الآخرين في الحياة حق وعليه واجب.
والأصل أن يؤدي كل ما عليه قبل أن يطلب ما له، لأنه لو فعل كل فرد ذلك لن تكون هناك حاجة ليطلب أحد حقه، لأن الطبيعي كما سبق أن ذكرت أن كل علاقة لها وجه مقابل فالواجب الذي تؤديه هو حق لشخص آخر، والواجب الذي يؤديه الآخر هو حقك.
وإنما يحدث الخلل والشقاق حينما يجعل كل طرف همه أن يأخذ أولاً حقه قبل أن يفكر في أداء واجبه ؛ وهذا مالا نجده مطلقا في خلية النحل ؛ فالجميع يؤدي واجبه دون انتظار مقابل من أحد ولا حتى أوامر من أحد .
وهذا هو الفرد الذي صنعه الإسلام ورباه القرآن ؛ ذلك الفرد الذي يعطي ما عليه قبل أن يطلب ما له، بل ويعطي أكثر مما يأخذ، وهذا هو الخلق العظيم الذي أسماه الإسلام بخلق الإحسان، والذي يجسد أرقى درجات العبادة والتعامل والأخلاق.
ويقابلها في الطرف الآخر نوعية بغيضة حذر القرآن منها وتوعد أصحابها بالويل، وهم أولئك الذين أسماهم المطففين، وهم باختصار شديد الذين تختل موازين العلاقات لديهم فيريدون دائماً أن يأخذوا أكثر مما يعطوا في كل تعاملاتهم، فهم من أولئك الذين لا يستريح لهم بال إلا بأن يكسبوا ، ولو علي حساب الآخرين وخسارتهم .
تلك العلاقة المدمرة في الحياة عموماً وفي التنظيمات خصوصاً والتي توعد المولي عز وجل أصحابها بالويل في سورة سميت بسورة المطففين والتي منها قوله :
"ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون، ليوم عظيم...."
وأود الإشارة هنا إلى أن أمر التطفيف لايقتصر فقط علي مجرد الكيل والميزان بمفهومهما الضيق ؛ وإنما يتعداه إلى كل علاقة بشرية إجتماعية فى أي مجال من المجالات ؛ فإما أن تتم على أساس العدل وهذا هو الحد الأدني ، وإما أن تقوم على أساس الإحسان والإيثار .
فأين هؤلاء من قوله تعالى مصورا موقف الأنصار من المهاجرين : "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فألئك هم المفلحون " الحشر : 9
ومن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"
والآن نتوقف ليس لانتهاء الدروس ولكن لنكمل معا بإذن الله في مرة قادمة دروسا أخري عظيمة ليس فقط في التنظيم الذي طوفنا حوله في هذه المقالة ، وإنما في موضوعات إدارية أخرى متعددة لاتقل أهمية .
المصدر: almohamady
الدكتور محمد المحمدي الماضي
(1) درس في التنظيم :
مقدمة :
ولم لا نتعلم من النحل، وقد أفرد الله سبحانه وتعالى سورة باسمه في القرآن، ولا يكون ذلك إلا لشأن عظيم ودروس عظيمة يجب أن ينتبه إليها كل من يعظم القرآن، وها نحن نحاول في هذه العجالة أن نواصل معاً محاولاتنا للوقوف ولو على بعض تلك الدروس العظيمة التي أشرنا إلى بعض منها في كل من وقفاتنا مع الهدهد والنمل، والتي كان لها عظيم الأثر لدى كل من قرأها.
وقفة تأمل:
لا شك أن المرء قد يتعجب- كما سبق أن تعجب حين وقفتنا مع نملة سليمان- وذلك حينما يجد سورة من السور الطوال سميت بسورة النحل أو النمل ولم يرد ذكر أي منهما فيهما إلا في جزء من آية أو بضع آيات، لكن هذا يدعونا إلى أمرين:
الأول:
أن نمعن النظر في كل كلمة من كلمات القرآن التي وردت في هذا الشأن.
الثاني:
أن نبحث وندرس في سلوك تلك الحشرات من خلال العلوم المتخصصة لنتعرف على المزيد من التفاصيل التي تبصرنا بالمزيد من الدروس والعبر، فالنظر في مخلوقات الله للتدبر والدراسة والعبرة يعتبر مما دعانا الله سبحانه وتعالى إليه في كتابه الكريم، ولقد نص القرآن على أولئك الذين لا يلتفتون إلى مثل تلك الآيات العظيمة التي تملأ الكون في سمائه وأرضه.
" وكأي من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون" يوسف: 105
فكلاً من آيات القرآن المقروءة وآيات الكون المشاهدة تتضافر معاً في شكل متجانس ورائع للدلالة على روعة الخلق وعظمة الخالق.
وسوف نحاول قدر الإمكان إتباع هذا المنهج في هذه التأملات وإن كان الأمر- ولا شك- يحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة في كلاً الاتجاهين.
الدرس الأول: في التنظيم :
في الحقيقة لا يمكن لأحد يريد التحدث عن التنظيم كأحد وظائف الإدارة، بشكل واضح وجلي وفي أنصع صوره ؛ إلا ووجد في تنظيم خلية النحل ضالته وبغيته ، وهذا مايدفعنا دفعا للوقوف علي تلك الدروس العظيمة فهيا بنا .
1 ) جوهر التنظيم
2) التخصص وتقسيم العمل ثورة في تاريخ البشرية
3 ) التكامل (integration)
4 ) المرونة والتكيف مع الأوضاع الخارجية المحيطة
5 ) النمو الاستراتيجي المتوازن
6 ) مبادئ مهمة وعظيمة في التنظيم
أ ) مبدأ وحدة الأمر (unity of command)
ب) مبدأ تكافؤ السلطة والمسئولية
ج ) مبدأ تفويض السلطة
7 ) الحق والواجب بين الإحسان والتطفيف
وسوف نتناول معاً درساً درساً:
( الدرس الأول ) جوهر التنظيم
فإن كان التنظيم في جوهره ينطوي على ركنين هما:
التقسيم والتنسيق، أو التفاضل والتكامل (Differentiation & Integration)
كما يقولون، فإن آيات الله في خلية النحل تتجلى بأعظم ما يكون في إثبات ذلك، وما هو أكثر منه، ولعلنا نحاول في هذه المقالة الغوص في أعماق بحار عميقة واصطياد بعض درره ولؤلؤه.
( الدرس الثاني ) التخصص وتقسيم العمل ثورة في تاريخ البشرية:
يعتبر التخصص بصفة عامة أحد أهم الثورات التكنولوجية في تاريخ البشرية، والتي انتقلت بها من طور إلى طور آخر أكثر تقدماً.
حيث كان لظهور عصر التخصص وتقسيم العمل الفضل الأكبر لتوفير الوقت والتركيز على حرفة واحدة ومن ثم ظهر الفائض الذي تبعه بالضرورة ظهور الحاجة للتبادل وهو ما عرف بالتجارة ؛ ابتداء من المقايضة ؛ فيما عرف بالاقتصاد السلعي وانتهاء بظهور النقود كوسيط للقيمة، ومقياس لها، ووسيط للتبادل فيما عرف بالاقتصاد النقدي.
ولعل القارئ يدرك كيف كان للتخصص وتقسيم العمل أكبر الأثر في تحقيق ذلك التقدم الرهيب في سير البشرية الاقتصادي نحو التقدم الحضاري.
ولا شك أن التخصص وتقسيم العمل ظل بعد ذلك وإلى الآن وفي كل وقت هو الجوهر الأول والأساسي لأي تنظيم إنساني بمعناه الشامل، والذي يقصد به فردان فأكثر يعملون معاً لتحقيق هدف واحد مشترك.
لكن الأمر لا يقتصر فقط على التنظيمات الإنسانية، فها نحن نجد قمة التقسيم للأدوار والمهام والتخصصات في منظمة النحل،
فالشغالات مهمتها البحث عن الزهور وارتشاف رحيقها لإنتاج العسل، وحبوب اللقاح، وغذاء الملكات- كما يتم تقسيم الشغالات أيضاً تقسيماً داخلياً آخر يشتمل عدة تخصصات أخرى عرف منها الحراسة، وتحديد أماكن الزهور وتوجيه أسراب النحل إليها، وتكوين الشمع في الخلية..الخ.
ثم هناك الذكور التي تتركز مهمتهم في تلقيح الملكة.
ثم الملكة التي تعني أساساً بوضع البيض لإنتاج المزيد من اليرقات التي تضاعف قوة النحل بإضافة أسراب أخرى إليه لتحقيق المزيد من الإنتاج والنمو وضمان الاستمرارية.
بالإضافة إلى وظيفتها باعتبارها الملكة ولا شك أن هذا التنظيم لا ينحصر فيما يعرف بالتخصص الدقيق لأفراده ، ولكن هناك الكثير من المرونة ؛ حيث يمكن لكل منها المشاركة في أكثر من دور وخاصة الشغالات.
كما أود الإشارة إلى نقطة مهمة جداً هنا وهي أن هذا التنظيم يقوم على أفضل وأحدث ما يمكن أن تبدعه العقلية الإدارية وهو ما يعرف بالتنظيم من خلال فرق العمل، حيث إنك لا تجد نحلة واحدة فقط تسير وتعمل في تخصص واحد، وإنما فرق عمل متكاملة ومتفاهمة ومتناسقة لتؤدي عملها أيا كان بأعلى درجات الكفاءة والفعالية.
إن أصعب ما تعاني منه كثير من المنظمات البشرية الآن هو أن إدارتها تقوم على أسلوب الإدارة بالأفراد وليس إدارة فرق العمل ولعلك تدرك معي كم هو البون شاسعاً بين الأسلوبين.
ومن هنا فإننا ندرك أن التقسيم موجود ولكنه يقوم على أساس فرق عمل يتخصص كل منها في أداء مهمة معينة مع وجود درجة عالية من المرونة للمشاركة في مهام أخرى دون أدني تنطع أو بيروقراطية عقيمة.
( الدرس الثالث ) التكامل (integration)
يعتبر التكامل أو التنسيق هو الركن الثاني للتنظيم. فبدونه لن يكون للتقسيم أو التخصص معنى ولن يتحقق أصلاً معنى المنظمة أو التنظيم.
فبدونه سوف تجد كثرة التضارب والازدواج والتكرار، وتشتت الجهد بلا جدوى أو طائل أو تركيز نحو الأهداف.
وكل تلك السلبيات قد نجدها واضحة في كثير المنظمات البشرية ابتداء من أصغر منظمة كالأسرة وانتهاء بالوزارات على مستوى أي دولة.
لكن لا يمكن لأحد أن يلحظ أياً من الظواهر السلبية على خلية أو منظمة النحل.
فهي تتسم بعدة خصائص تنظيمية مهمة تعمل كآليات لتحقيق التنسيق التلقائي الفطري المستمر أهمها:
- وحدة الهدف.
- وتحديد الإجراءات والأدوار.
- وتنميط المهارات.
- والتفاهم المشترك في الأزمات والطوارئ.
- والقيادة الضابطة والموجهة.
وهذه هي أهم أساسيات تحقيق التنسيق بأية منظمة وهي جميعاً متحققة بشكل فطري ومستمر في تنظيم مملكة النحل.
مما يحقق جانباً أساسياً لفعالية وكفاءة التنظيم، ويمثل درساً عظيماً ومفيداً لكل من يريد بناء منظمة سليمة.
( الدرس الرابع ) المرونة والتكيف مع الأوضاع الخارجية المحيطة(integration)
إن أخطر ما يصيب أي منظمة بالفشل والانهيار هو الجمود على وضع معين وكأنه أصبح أبدياً. ولقد رأينا كثيراً من المنظمات العملاقة التي نجحت ردحاً من الزمان قد أصابها النجاح بنوع من الجمود الذي تحول مع الوقت إلى وحش كاسر يتصدى لأي عملية تكيف مع الأوضاع البيئية المحيطة دائمة التغير، والذي أطلق عليه البعض الجمود النشط (ِActive Inertia) ولعل أفضل مثال على ذلك ما يحدث لشركة فورد و GE و IBM وغيرهامن الشركات الأمريكية في السبعينات والثمانينات ثم تغلبت عليه إلى حد كبير بعد ذلك، وما حدث لشركة فاير ستون لإطارات السيارات أمام شركة ميشلان حيث لم تستطع التخلص مما تعودت عليه من أساليب أيام نجاحها، رغم تغير البيئة والظروف مما أودى بها تماماً، فتم بيعها بثمن بخس لشركة يابانية منافسة ثم تلاشت تماماً من الوجود.
ولا ننس أمثلة كثير من شركاتنا التي لا تلقى بالاً ولا اعتباراً للتغيرات البيئية الخارجية، فثبتت هياكلها وأساليبها ووسائلها وجعلتها بمثابة غاية في حد ذاتها مما أصابها بالفشل الذريع وأدى إلى اختفاء الكثير منها..،
هذه عجالة شديدة تؤكد على أهمية الإدراك الصحيح للظروف البيئية المحيطة والاستجابة الإدارية المناسبة لها بما يفرض على الإدارة ضرورة اتباع هياكل إدارية مرنة تتوافق مع الظروف المحيطة وتحافظ على درجة معقولة من النجاح المستمر، والتي تغيب للأسف عن كثير من إدارتنا البشرية، فماذا عن مملكة النحل؟
لقد أشار القرآن إلى هذه النقطة بشكل يدل على الإعجاز في مراعاة هذا الجانب حيث قال تعالى: "أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر، ومما يعرشون..."
فنحن نرى هنا أن النحل غير مقيد بهيكل واحد محدد، وإنما يكيف نفسه ويؤدي واجبه، ويمارس عمله وينجز مهمته ويحقق هدفه على خير وجه في كافة الأوضاع التي تتاح له، فهو يبني بيئة او خليته في الجبال، أو على الأشجار، أو فيما يهيئه له الإنسان مما يعرشه من مناحل، حيث يستقر فيها ويعمل دون أدنى مشكلة أو أزمة.
كما أنه ينطلق في البيئة المحيطة ويبحث عما فيها من ثمار فيرتشف من رحيقها، سواءاً كان نباتاً جبلياً فقيراً وقليلاً وصعباً، أو زهوراً، أو نباتاً محصولياً، أو غير ذلك، فإنه يرتشفه ويحوله إلى منتج نافع ومفيد ومتعدد الأغراضفي أعلى درجة من الجودة والاتقان.
( الدرس الخامس ) النمو الاستراتيجي المتوازن:
لعل من أعظم الدروس من وجهة نظري فيما يتعلق بتنظيم مملكة النحل، هو ذلك المتعلق بالنمو والاستمرارية الفعالة الكفء، وكيف ينمو الهيكل الإداري ليتوافق بشكل فطري مبسط مع استمرارية نمو المملكة.
ولعل هذا الأمر قد يبدو عادياً أو بسيطاً لأول وهلة، ولكن لن يعرف قدره إلا من عايش واقع كثير من المنظمات سواء منها ما كان حكومياً عاماً، أو ما كان خاصاًً، حيث قد لاحظت حالات واقعية كثيرة قد اصابها اضطراب وصل لدرجة التعرض للفشل الذريع بسبب النمو غير المتوازن، حيث شاهدنا كثير من الشركات ينمو حجمها ولا ينمو هيكلها التنظيمي ليتوافق مع هذا النمو في الحجم.
ويترتب على ذلك إصرار كثير من المديرين أو أصحاب مثل هذه المنظمات على إدارتها بنفس الهيكل ونفس أسلوب الإدارة، بيروقراطية، مركزية، تسلط فردي وكثيراً ما كان الفشل هو النتيجة الطبيعية إلا إذا تم تدارك الأمر وإصلاحه في الوقت المناسب، وخاصة في مجال الشركات العائلية..
ويذكرني ذلك برجل كبير يصر على ارتداء زيه أيام كان طفلاً صغيراً في الحضانة..!
ولقد اعتبر كثير من دعاة الهندسة الإدارية أن الاتجاه إلى تقسيم المنظمة الكبيرة إلى أقسام صغيرة شبه مستقلة فيما عرف بDown Sizing طفرة وثورة حقيقية في مجال الهيكلة الإدارية والذي سماه أيضاً رجال الاستراتيجية (SBU) أي التنظيم من خلال وحدات أعمال استراتيجية لكل منها شخصيتها وإدارتها ومركز تكلفتها وربحيتها بل وتنافس في السوق وتتنافس ؛ ومدير كل منها له صلاحيات حقيقية في ظل سياسات وضوابظ واضحة، ولعل شركة جنرال اليكتريك وما أحدثته في هذا الصدد قد أدى ثورة حقيقية وانتشلها من عثرتها حينما تضخم حجمها بشكل جعلها أقرب إلى المؤسسات الحكومية البيروقراطية الديناصورية مما عرضها لخطر التلاشي والانهيار.
لقد تعجبت كثيراً من الأسلوب الفطري شديد البساطة في مملكة النحل، حيث يظل النمر مستمراً، ليس فقط بإنتاج المزيد من العسل، والشمع، وحبوب اللقاح ، وإنما أيضا – وهذا هو الأهم - بإنتاج المزيد من أسراب النحل بكل ما يحتويه كل سرب من تخصصات متكاملة، ثم ينشئ كل منها خلية جديدة في المكان الذي يجده مهيأ لذلك ويمارس إنتاجه بنفس الدرجة من الكفاءة والفعالية بحيث إنك تجد أن المنحل الذي يتكون من 60 خلية مثلاً سوف تبلغ بعد سنة ما لا يقل عن حوالي 100 خلية بما فيها من شغالات وذكور وملكة..!
فأي منظمة في الدنيا في عالم البشر هي تلك التي تنمو بمثل هذا المعدل!! ليس هذا فحسب بل الأعجب بمثل هذا الأسلوب المعجز الذي لا يجعل من النمو مشكلة كما يحدث في كثير من المنظمات البشرية، ولعل كثير من المديرين في كافة أنواع الشركات وخاصة القطاع العائلي يحتاج إلى تفهم مثل تلك الدروس العظيمة والتي لم نكتشف أهميتها إلا منذ سنوات قلائل ونتيجة للتعرض لأزمات قاتلة والتي تعتبر من أساسيات الابتكار الاستراتيجي العبقري.
( الدرس السادس ) مبادئ مهمة وعظيمة في التنظيم:
إذا كان أي تنظيم يقوم أساساً على ركنين أساسيتين كما سبق أن ذكرنا وهما: التقسيم والتنسيق، وما ينطوي عليه كل منهما من أدوات فإن سلامة العلاقات في هذا التنظيم تقوم أيضاً من وجهة نظري علي ركنين وهما: "السلطة والمسئولية"
ويقصد بالسلطة: " حق إصدار أمر، أو اتخاذ قرار"
ويقصد بالمسئولية: "الالتزام بأداء واجب "
وجوهر العلاقات في أي تنظيم تنبثق هذين الأمرين فإن صلح صلح التنظيم وإن فسد فسد التنظيم، فبناء عليهما ينشأ مبادئ عدة للتنظيم أهمها ثلاث مبادئ:
أ ) مبدأ وحدة الأمر (unity of command)
من مبادئ التنظيم المهمة مبدأ وحدة الأمر، والذي يقصد به ألا يتلقى المرؤوس أوامره إلا من رئيس واحد فقط، وكما يقول المثل العامي: "المركب التي بها رئيسين تغرق"
ومما يؤكد على سلامة هذا المبدأ وجوده بشكل فطري في خلية النحل، فلا تجد لخلية أكثر من ملكة، وإن كان هناك أكثر من ملكة مرشحة فإنه يتم سباق تنافسي بينهما لتقضي أحداهما على الأخرى أو تطردها وتظل الرئاسة لواحدة فقط، فإن كان ولا بد من وجود ملكة قوية أخرى فإنها حينئذ يمكن أن تقود سرباً جديداً من النحل الصغير الناشئ وتنطلق به لبناء خلية جديدة وهكذا.
بل إنني علمت من علماء متخصصين في علم الحشرات وخاصة النحل، أن الشغالات تعمل على تغذية أكثر من نحلة ناشئة لتكون ملكة فإذا بدأت تظهر علامات النمو بوضوح عليها، انتخبت أقواها وقتلت الأخريات..!!
ولعلنا نختم هذا الدرس العظيم في التنظيم بقول الله عز وجل:
" لو كان فيهما ألهة إلا الله لفسدتا ، فسبحان الله رب العرش عما يصفون " الأنبياء : 22
ب) مبدأ تكافؤ السلطة والمسئولية :
والذي ينطلق من قاعدة شرعية عريضة مؤداها أن يكون التكليف على قدر الوسع، "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" وذلك بألا يتم تحميل أحد الأفراد مسؤلية دون منحه سلطة مكافئة تمكنه من أدائها .
ولعل ما نلاحظه من لسعي كل نحلة وحركتها في أداء المهمة المنوطة بها على خير وجه ، ينم عن توافر قدر كبير من السلطة والصلاحية المكافئة الممنوحة لكل نحلة للتصرف بحرية في ضوء المصلحة العليا للمملكة والرسالة التي نشأت وفطرت من أجلها والتحمل الواضح للمسؤولية .
ج ) مبدأ تفويض السلطة :
ومؤداه بإيجاز :
أن السلطة تفوض والمسئولية لا تفوض .
ومنه تنشأ سلسلة مستمرة ومتدرجة من تفويض السلطة دون أن يفقد أي مستوى، قام بالتفويض مسئوليته أمام المستوى الأعلى الذي قام بتفويضه، ولعل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يحدد في إيجاز بليغ جوهر هذه المبادئ حينما يقرر "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ..." ثم عدد أنواعاً متنوعة من المسئوليات التي لا تتم إلا بناء على تفويض السلطة .
وبشيء بسيط من التأمل نجد أن كثيرا من أسباب الخلل التنظيمي في منظماتنا البشرية ترجع لغياب واحد أو أكثر من هذه المبادئ.
أما في مملكة النحل فإننا نلاحظ تحقق هذه الدروس والمبادئ بشكل فطري وتلقائي ولا نكاد نجد غياب أو انتهاك لأي منها .
فمبدأ وحدة الأمر واضح ومحدد ومحترم تماماً على مستوى كل خلية.
ومبدأ تكافؤ السلطة والمسئولية أيضاً واضح تماماً فهناك شيوع كامل للسلطة مع قمة التحمل والشعور بالمسئولية ليس فقط أمام المستوى الأعلى، وإنما أيضا - وهذا هو المهم- على المستوى الشخصي فيما يعرف بالإحساس بالمسئولية الذاتية أو الشخصية والتي يحلم كبار علماء الإدارة بوجودها في التنظيمات المثالية مثال "بيتر دراكر" الذي اعتبر الشعور بالمسئولية في كافة أرجاء التنظيم بحيث يكون أدنى مستوى تنظيمي مستشعر للمسئولية تماماً كأعلى مستوى، هو واحد من بين ستة مقومات أساسية للتغلب على تحدى إحداث ثورة في تحسين إنتاجية الخدمات والمعلومات.
وإذا كان البعض يتخيل ان التفويض الكبير للسلطة كما هو حادث في مملكة النحل قد يؤدي إلى فوضي، ومن ثم نجد معظم المديرين يميلون لتكريس وتركيز السلطة في أيديهم بشكل مركزي بغيض، فإن الدرس الذي نتعلمه من النحل يؤكد أن أعظم ضمانة لكليهما هو وجود الآخر، فالسلطة والمسئولية كوجهي عملة واحدة، وكلما زاد نضج افراد التنظيم وأصبحوا على درجة عالية من تحمل المسئولية واستشعارها فإنه يكون من الخطأ الجسيم بل والمدمر حينئذ حجب السلطة عنهم، وعدم تفويضها لهم، بل إن ذلك في حد ذاته - إن حدث - يؤدي إلى سريان روح في التنظيم ؛ من التسيب ، واللامبالاة ، وعدم تحمل المسئولية.
وإذا كان هذا الوضع المختل يحدث كثيراً في منظماتنا البشرية وخاصة من أنماط إدارية تفسد وتزعم أنها تصلح وتخرب وتزعم أنها تعمر، فإن ذلك لا يحدث مطلقاً في خلية أو منظمة النحل، التي لا تنتظر فيها نحلة أوامر أو تعليمات من نحلة أخرى لتؤدي واجبها. فأي قوة عبقرية ملهمة تلك التي حركتهم جميعاً لتنطلق كل منها مبكراً إلى عملها وتعود محملة بالرحيق لتواصل بعد ذلك تحويله إلى العسل أو غذاء الملكات في أعلى درجات التميز والاتقان.
( الدرس السابع ) الحق والواجب بين الإحسان والتطفيف :
لا شك أن الجوهر الأخلاقي لتلك العلاقة التنظيمية في الإسلام يقوم على أساس خلقي قيمي هو ما يسمى بالعلاقة بين الحق والواجب.
فلكل فرد في كل علاقة مع الآخرين في الحياة حق وعليه واجب.
والأصل أن يؤدي كل ما عليه قبل أن يطلب ما له، لأنه لو فعل كل فرد ذلك لن تكون هناك حاجة ليطلب أحد حقه، لأن الطبيعي كما سبق أن ذكرت أن كل علاقة لها وجه مقابل فالواجب الذي تؤديه هو حق لشخص آخر، والواجب الذي يؤديه الآخر هو حقك.
وإنما يحدث الخلل والشقاق حينما يجعل كل طرف همه أن يأخذ أولاً حقه قبل أن يفكر في أداء واجبه ؛ وهذا مالا نجده مطلقا في خلية النحل ؛ فالجميع يؤدي واجبه دون انتظار مقابل من أحد ولا حتى أوامر من أحد .
وهذا هو الفرد الذي صنعه الإسلام ورباه القرآن ؛ ذلك الفرد الذي يعطي ما عليه قبل أن يطلب ما له، بل ويعطي أكثر مما يأخذ، وهذا هو الخلق العظيم الذي أسماه الإسلام بخلق الإحسان، والذي يجسد أرقى درجات العبادة والتعامل والأخلاق.
ويقابلها في الطرف الآخر نوعية بغيضة حذر القرآن منها وتوعد أصحابها بالويل، وهم أولئك الذين أسماهم المطففين، وهم باختصار شديد الذين تختل موازين العلاقات لديهم فيريدون دائماً أن يأخذوا أكثر مما يعطوا في كل تعاملاتهم، فهم من أولئك الذين لا يستريح لهم بال إلا بأن يكسبوا ، ولو علي حساب الآخرين وخسارتهم .
تلك العلاقة المدمرة في الحياة عموماً وفي التنظيمات خصوصاً والتي توعد المولي عز وجل أصحابها بالويل في سورة سميت بسورة المطففين والتي منها قوله :
"ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون، ليوم عظيم...."
وأود الإشارة هنا إلى أن أمر التطفيف لايقتصر فقط علي مجرد الكيل والميزان بمفهومهما الضيق ؛ وإنما يتعداه إلى كل علاقة بشرية إجتماعية فى أي مجال من المجالات ؛ فإما أن تتم على أساس العدل وهذا هو الحد الأدني ، وإما أن تقوم على أساس الإحسان والإيثار .
فأين هؤلاء من قوله تعالى مصورا موقف الأنصار من المهاجرين : "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فألئك هم المفلحون " الحشر : 9
ومن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"
والآن نتوقف ليس لانتهاء الدروس ولكن لنكمل معا بإذن الله في مرة قادمة دروسا أخري عظيمة ليس فقط في التنظيم الذي طوفنا حوله في هذه المقالة ، وإنما في موضوعات إدارية أخرى متعددة لاتقل أهمية .
المصدر: almohamady
الثلاثاء مارس 10, 2015 4:45 pm من طرف Hamida
» اسرار نبات خبز النحل
الأربعاء يوليو 23, 2014 4:49 pm من طرف taha mustafa
» مدير الجامعة: تفخر الجامعة بأن تتعاون في وضع هذه الإستراتجية الوطنية المهمة
الثلاثاء مايو 13, 2014 8:57 pm من طرف ابو عصام
» وزير الزراعة يفتتح ورشة عمل كرسي بقشان للإستراتيجية الوطنية لتربية النحل
السبت مايو 10, 2014 9:48 pm من طرف ابو عصام
» مناقشة المسودة النهائية للإستراتيجية الوطنية لتربية النحل
السبت مايو 10, 2014 9:47 pm من طرف ابو عصام
» وزير الزراعة يفتتح ورشة عمل كرسي بقشان للإستراتيجية الوطنية لتربية النحل بجامعة الملك سعود
السبت مايو 10, 2014 9:46 pm من طرف ابو عصام
» ينظم كرسي عبدالله بقشان بجامعة سعود بالتعاون مع "الزراعة "
السبت مايو 10, 2014 9:45 pm من طرف ابو عصام
» جامعة الملك سعود ترعى ورشة عمل لمناقشة المسودة النهائية للاستراتيجية الوطنية لتربية النحل في المملكة
الأربعاء مايو 07, 2014 10:28 pm من طرف ابو عصام
» كرسي بقشان بجامعة الملك سعود ينظم ورشة المسودة النهائية للإستراتيجية الوطنية لتربية النحل
الثلاثاء مايو 06, 2014 4:51 pm من طرف ابو عصام